فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بَيّنَاتٍ}.
بيان لبعض آخر من كفرهم أي إذا تتلى عليهم بلسان الرسول صلى الله عليه وسلم آياتنا الناطقة بحقية التوحيد وبطلان الشرك {قَالُواْ مَا هذا} يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم التالي للآيات، والإشارة للتحقير قاتلهم الله تعالى: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بَيّنَاتٍ قَالُواْ مَا هذا إِلاَّ} فيجعلكم من أتباعه من غير أن يكون له دين إلهي، وإضافة الآباء إلى المخاطبين لا إلى أنفسهم لتحريك عرق العصبية منهم مبالغة في تقريرهم على الشرك وتنفيرهم عن التوحيد {وَقَالُواْ مَا هذا} يعنون القرآن المتلو والإشارة كالإشارة السابقة {إِلاَّ إِفْكٌ} أي كلام مصروف عن وجهه لا مصداق له في الواقع {مُّفْتَرًى} بإسناده إلى الله عز وجل.
{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقّ} أي لأمر النبوة التي معها من خوارق العادة ما معها أو للإسلام المفرق بين المرء وزوجه وولده أو القرآن الذي تتأثر به النفوس على أن العطف لاختلاف العنوان بأن يراد بالأول معناه وبالثاني نظمه المعجز {لَمَّا جَاءهُمْ} من غير تدبر ولا تأمل فيه {إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} ظاهر سحريته.
وفي ذكر {قَالَ} ثانيًا والتصريح بذكر الكفرة وما في اللامين من الإشارة إلى القائلين والمقول فيه وما في لما من المسارعة إلى البت بهذا القول الباطل إنكار عظيم له وتعجب بليغ منه، وجوز أن تكون كل جملة صدرت من قوم من الكفرة.
{وَمَا ءاتيناهم} أي أهل مكة {مّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا} تقتضي صحة الإشراك ليعذروا فيه فهو كقوله تعالى: {أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سلطانا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ} [الروم: 5 3] وقوله سبحانه: {أَمْ ءاتيناهم كتابا مّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} [الزخرف: 1 2] وإلى هذا ذهب ابن زيد، وقال السدي: المعنى ما آتيناهم كتبًا يدرسونها فيعلموا بدراستها بطلان ما جئت به، ويرجع إلى الأول، والمقصود نفى أن يكون لهم دليل على صحة ما هم عليه من الشرك، ومن صلة، وجمع الكتب إشارة على ما قيل إلى أنه لشدة بطلانه واستحالة إثباته بدليل سمعي أو عقلي يحتاج إلى تكرر الأدلة وقوتها فكيف يدعى ما تواترت الأدلة النيرة على خلافه.
وقرأ أبو حيوة {يَدْرُسُونَهَا} بفتح الدال وشدها وكسر الراء مضارع أدرس افتعل من الدرس ومعناه يتدارسونها، وعنه أيضًا {يَدْرُسُونَهَا} من التدريس وهو تكرير الدرس أو من درس الكتاب مخففًا ودرس الكتب مشددًا التضعيف فيه باعتبار الجمع.
{وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مّن نَّذِيرٍ} أي وما أرسلنا إليهم قبلك نذيرًا يدعوهم إلى الشرك وينذرهم بالعقاب على تركه وقد بان من قبل أن لا وجه له بوجه من الوجوه فمن أين ذهبوا هذا المذهب الزائغ، وفيه من التهكم والتجهيل ما لا يخفى، ويجوز أن يراد أنهم أميون كانوا في فترة لا عذر لهم في الشرك ولا في عدم الاستجابة لك كأهل الكتاب الذين لهم كتب ودين يأبون تركه ويحتجون على عدم المتابعة بأن نبيهم حذرهم ترك دينهم مع أنه بين البطلان لثبوت أمر من قبله باتباعه وتبشير الكتب به، وذكر ابن عطية أن الأرض لم تخل من داع إلى توحيد الله تعالى فالمراد نفي إرسال نذير يختص بهؤلاء ويشافههم، وقد كان عند العرب كثير من نذارة إسماعيل عليه السلام والله تعالى يقول: {إِنَّهُ كَانَ صادق الوعد وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا} [مريم: 54] ولكن لم يتجرد للنذارة وقاتل عليها إلا محمد صلى الله عليه وسلم. اهـ.
ثم إنه تعالى هددهم بقوله سبحانه: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ} من الأمم المتقدمة والقرون الخالية بما كذبوا {وَمَا بَلَغُواْ} أي أهل مكة {مِعْشَارَ} أي عشر {مَا ءاتيناهم} وقال: قوم المعشار عشر العشر ولم يرتضه ابن عطية، وقال الماوردي: المراد المبالغة في التقليل أي ما بلغوا أقل قليل مما آتينا أولئك المكذبين من طول الأعمال وقوة الأجسام وكثرة الأموال {فَكَذَّبُواْ} أي أولئك المكذبون {رُسُلِى} الذين أرسلتهم إليهم {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي إنكاري لهم بالتدمير فليحذر هؤلاء من مثل ذلك.
والفاء الأولى سببية و {كَذَّبَ} الأول تنزيل منزلة للازم أي فعل الذين من قبلهم التكذيب وأقدموا عليه، ونظير ذلك أن يقول القائل أقدم فلان على الكفر فكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ومن هنا قالوا: إن {كَذَّبُواْ رُسُلِى} عطف على {كَذَّبَ الذين} عطف المقيد على المطلق وهو تفسير معنى {وَمَا بَلَغُواْ} اعتراض والفاء الثانية فصيحة فيكون المعنى فحين كذبوا رسلي جاءهم إنكاري بالتدمير فكيف كان نكيري لهم، وجعل التدمير إنكارًا تنزيلًا للفعل منزلة القول كما في قوله:
ونشتم بالأفعال لا بالتكلم

أو على نحو:
تحية بينهم ضرب وجيع

وجوز بعضهم أن يكون صيغة التفعيل في {كَذَّبَ الذين} وفي {لَّمَّا كَذَّبُواْ} للتعدية والمكذب فيهما واحد أي أنهم أكثروا الكذب وألفوه فصار سجية لهم حتى اجترؤا على تكذيب الرسل، وعلى الوجهين لا تكرار، وجوز أن يكون {كَذَّبُواْ رُسُلِى} منعطفًا على {مَا بَلَغُواْ} من تتمة الاعتراض والضمير لأهل مكة يعني هؤلاء لم يبلغوا معشار ما آتينا أولئك المكذبين الأولين وفضلوهم في التكذيب لأن تكذيبهم لخاتم الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام تكذيب لجميع الرسل عليهم السلام من وجهين وعليه لا يتوهم تكرار كما لا يخفى، وكون جملة {مَا بَلَغُواْ} معترضة هو الظاهر وجعل {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ} تمهيدًا لئلا تكون تلك الجملة كذلك يدفعه {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} لأن معناه للمكذبين الأولين البتة فلا التئام دون القول بكونها معترضة، وإرجاع ضمير {بَلَغُواْ} إلى أهل مكة والضمير المنصوب في {ءاتيناهم} إلى {الذين مِن قَبْلِهِمْ} وبيان الموصول بما سمعت هو المروي عن ابن عباس وقتادة وابن زيد، وقيل الضمير الأول للذين من قبلهم والضمير الثاني لأهل مكة أي وما بلغ أولئك عشر ما آتينا هؤلاء من البينات والهدى، وقيل: الضميران للذين من قبلهم، أي كذبوا وما بلغوا في شكر النعمة ومقابلة المنة عشر ما آتيناهم من النعم والإحسان إليهم، واستظهر ذلك أبو حيان معللًا له بتناسق الضمائر حيث جعل ضمير {فذكبوا} للذين من قبلهم فلا تغفل. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤكُمْ}.
انتقال من حكاية كفرهم وغرورهم وازدهائهم بأنفسهم وتكذيبهم بأصول الديانة إلى حكاية تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأتبع ذلك بحكاية تكذيبهم الكتابَ والدين الذي جاء به فكان كالفذلكة لما تقدم من كفرهم.
وجملة {إذا تتلى} معطوفة على جملة {ويوم نحشرهم جميعًا} [سبأ: 40] عطف القصة على القصة.
وضمير {عليهم} عائد إلى {الذين كفروا} [سبأ: 31] وهم المشركون من أهل مكة.
وإيراد حكاية تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم مقيدةً بالزمن الذي تتلى عليهم فيه آيات الله البينات تعجيب من وقاحتهم حيث كذبوه في أجدر الأوقات بأن يصدقوه عندها لأنه وقت ظهور حجة صدقه لكل عاقل متبصر.
وللاهتمام بهذا الظرف والتعجيب من متعلقه قُدّم الظرف على عامله والتشوق إلى الخبر الآتي بعده وأنه من قبل البهتان والكفر البواح.
والمراد بالآيات البينات آيات القرآن، ووصفها بالبيّنات لأجل ظهور أنها من عند الله لإِعجازها إياهم عن معارضتها، ولِما اشتملت عليه معانيها من الدلائل الواضحة على صدق ما تدعو إليه، فهي محفوفة بالبيان بألفاظها ومعَانيها.
وحذف فاعل التلاوة لظهور أنه الرسول صلى الله عليه وسلم إذ هو تالي آيات الله، فالإِشارة في قولهم: {ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم} إلى الرسول صلى الله عليه وسلم واستحضروه بطريق الإِشارة دون الاسم إفادة لحضوره مجلس التلاوة وذلك من تمام وقاحتهم فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ عليهم القرآن في مجالسهم كما ورد في حديث قراءته على عتبة بن ربيعة سورة فُصلت وقراءته على عبد الله بن أُبَيّ ابن سَلول للقرآن بالمدينة في القصة التي تشاجر فيها المسلمون والمشركون.
4
وابتدأوا بالطعن في التالي لأنه الغرض الذي يرمون إليه، وأثبتوا له إرادة صدّهم عن دين آبائهم قصد أن يثير بعضُهم حميةَ بعض لأنهم يجعلون آباءهم أهل الرأي فيما ارتأوا والتسديد فيما فعلوا فلا يرون إلا حَقًّا ولا يفعلون إلا صوابًا وحكمة، فلا جرم أن يكون مريد الصدّ عنها محاولًا الباطل وكاذبًا في قوله لأن الحق مطابق الواقع فإبطال ما هو حق في زعمهم قولٌ غير مطابق للواقع فهو الكذب.
وفعل {كان} في قولهم: {عمّا كان يعبد آباؤكم} إشارة إلى أنهم عنوا أن تلك عبادة قديمة ثابتة.
وفي ذلك إلهاب لقلوب قومهم وإيغار لصدورهم ليتألبوا على الرسول صلى الله عليه وسلم ويزدادوا تمسكًا بدينهم وقد قصروا الرسول عليه الصلاة والسلام على صفة إرادة صدهم قصرًا إضافيًا، أي إلا رجل صادق فما هو برسول.
وأتبعوا وصف التالي بوصف المتلوّ بأنه كذب مفترىً وإعادة فعل القول للاهتمام بحكاية قولهم لفظاعته وكذلك إعادة فعل القول إعادة ثابتة للاهتمام بكل قول من القولين الغريبين تشنيعًا لهما في نفس السامعين فجملة {وقالوا ما هذا إلا إفك} عطف على جملة {قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم} فالفعلان مشتركان في الظرف.
والإِشارة الثانية إلى القرآن الذي تضمنه {تتلى} لتعيُّنه لذلك.
والإِفك: الكذب، ووصفه بالمفترَى إما أن يتوجّه إلى نسبته إلى الله تعالى أو أريد أنه في ذاته إفك وزادوا فجعلوه مخترعًا من النبي صلى الله عليه وسلم ليس مسبوقًا به.
فكونه إفكًا يرجع إلى جميع ما في القرآن، وكونه مفترىً يُرجعونه إلى ما فيه من قصص الأولين.
وهذا القول من بهتانهم لأنهم كثيرًا ما يقولون: {أساطير الأولين} [الأنعام: 25] فليس {مفترى} تأكيدًا ل {إفك}.
ثم حُكي تكذيبهم الذي يعم جميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من وحي يتلى أو دعوة إلى التوحيد وغيره أو استدلال عليه أو معجزة بقولهم: {إن هذا إلا سحر مبين} فهذا المقال الثالث يشمل ما تقدم وغيره، فحكاية مقالهم هذا تقوم مقام التذييل.
وأُظهر للقائلين دون إضمار ما تقدم ما يصح أن يكون معادًا للضمير فقيل: {وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم} ولم يَقُل: وقالوا للحق لما جاءهم، للدلالة على أن الكفر هو باعث قولهم هذا.
وأُظهر المشار إليه قبل اسم الإِشارة في قوله: {للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين} لأنه لا دليل عليه في الكلام السابق، أي إذ ظهر لهم ما هُو حق من إثبات للتوحيد أو إخبار عن الغيب أو البعث قالوا: ما هذا إلا سحر مبين.
فالمراد من الحق: ما هو أعم من آيات القرآن لأن السحر له أسلوبان: أحدهما شعوذة الأقوال التي لا تفهم مدلولاتها يختلقها السحرة ليوهموا الناس أن فيها مناجاة مع الجن ليمكنوهم من عمل ما يريدون فيسترهبوهم بذلك، وثانيهما أفعال لها أسباب خفية مستورة بحِيل وخفة أيدٍ تحركها فيوهمون بها الناس أنها من تمكين الجن إياهم التصرف في الخفيات، فإذا سمعوا القرآن ألحقوه بالأسلوب الأول، وإذا رأوا المعجزات ألحقوها بالأسلوب الثاني كما قالت المرأة التي شاهدتْ معجزةَ تكثير الماء في بعض غزوات النبي صلى الله عليه وسلم فقالت لقومها أتيتُ أسحرَ الناس، أو هو نبيء كما زعموه.
ومعنى {مبين} أنه يظهر منه أنه سحر فتبيينه كنهه من نفسه، يعنون أن من سمعه يعلم أنه سحر.
وجملة {وقال الذين كفروا} معطوفة على جملة {وإذا تتلى}.
{وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44)}.
الواو للحال، والجملة في موضع الحال من الضمير في قوله: {قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم} [سبأ: 43] الآية، تحميقًا لجهالتهم وتعجيبًا من حالهم في أمرين:
أحدهما: أنهم لم يدركوا ما ينالهم من المزية بمجيء الحق إليهم إذ هيأهم الله به لأن يكونوا في عداد الأمم ذوي الكتاب، وفي بدء حال يبلغ بهم مبلغ العلم، إذ هم لم يسبق لهم أن أتاهم كتاب من عند الله أو رسول منه، فيكون معنى الآية: فكيف رفضوا اتّباع الرسول وتلقي القرآن وكان الأجدرُ بهم الاغتباط بذلك.
وهذا المعنى هو المناسب لقوله: {يدرسونها} أي لم يكونوا أهل دراسة فكان الشأن أن يسرهم ما جاءهم من الحق.
وثانيهما: أنهم لم يكونوا على هدى ولا دين منسوب إلى الله تعالى حتى يكون تمسكهم به وخشية الوقوع في الضلالة إن فرَّطوا فيه يحملهم على التردد في الحق الذي جاءهم وصدققِ الرسول الذي أتاهم به فيكون لهم في الصد عنهما بعض العذر: فيكون المعنى: التعجيب من رفضهم الحق حين لا مانع يصدهم، فليس معنى جملة {وما آتيناهم من كتب} الخ على العطف ولا على الإِخبار لأن مضمون ذلك معلوم لا يتعلق الغرض بالإِخبار به، ولكن على الحال لإِفادة التعجيب والتحميق، وعلى هذا المعنى جرى المفسرون.
والدراسة: القراءة بتمهّل وتفهّم، وتقدم عند قوله تعالى: {وبما كنتم تدرسون} في آل عمران (79).
وإنما لم يقيد إيتاء الكتب بقيد كما قُيّد الإِرسال بقوله: قبلَك لأن الإِيتاء هو التمكين من الشيء وهم لم يتمكنوا من القرآن بخلاف إرسال النذير فهو حاصل سواء تقبلوه أم أعرضوا عنه.
ومن نحا نحو أن يكون معنى الآية التفرقةَ بين حالهم وحال أهل الكتاب فذلك منحى واهن لأنه يجرّ إلى معذرة أهل الكتاب في عضّهم بالنواجذ على دينهم، على أنه لم يكن في مدة نزول الوحي بمكة علاقة للدعوة الإِسلامية بأهل الكتاب وإنما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وأيضًا لا يكون للتقييد ب {قبلَك} فائدة خاصة كما علمت.
وهنالك تفسيرات أخرى أشد بعدًا وأبعد عن القصد جدًا.
{وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45)}.
هذا تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتهديد للذين كذّبوه، فموقع التسلية منه قوله: {وكذب الذين من قبلهم} وموقع التهديد بقية الآية، فالتسلية في أن له أسوة بالرسل السابقين، والتهديد بتذكيرهم بالأمم السالفة التي كذَّبتْ رُسلَها وكيف عاقبهم الله على ذلك وكانوا أشد قوة من قريش وأعظم سطوة منهم وهذا كقوله تعالى: {فأهلكنا أشدّ منهم بطشًا} [الزخرف: 8].
ومفعول {كذّب} محذوف دل عليه ما بعده، أي كذبوا الرسل، دل عليه قوله: {فكذبوا رسلي}.
وضمير {بلغوا} عائد إلى {الذين من قبلهم} والضمير المنصوب في {آتيناهم} عائد إلى {الذين كفروا} في قوله: {وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا سحر مبين} [سبأ: 43].
والمقام يردّ على كل ضمير إلى معاده، كما تقدم قريبًا عند قوله تعالى: {أكثرهم بهم مؤمنون} [سبأ: 41].
والمِعشار: العشر، وهو الجزء العاشر مثل المِرباع الذي كان يجعل لقائد الكتيبة من غنائم الجيش في الجاهلية.
وذُكر احتمالان آخران في معاد الضميرين من قوله: {وما بلغوا معشار ما آتيناهم} لا يستقيم معهما سياق الآية.
وجملة {وما بلغوا معشار ما آتيناهم} معترضة، والاعتراض بها تمهيد للتهديد وتقريب له بأن عقاب هؤلاء أيسر من عقاب الذين من قبلهم في متعارف الناس مثل قوله تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} [الروم: 27].
والفاء في قوله: {فكذبوا رسلي} للتفريع على قوله: {وكذب الذين من قبلهم} باعتبار أن المفرع عطف عليه قوله: {فكيف كان نكير} وبذلك كانت جملة {فكذبوا رسلي} تأكيدًا لجملة {وكذب الذين من قبلهم} ونظيره قوله تعالى: {كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا} في سورة القمر (9)، ولكون الفاء الثانية في قوله: {فكيف كان نكير} تأكيدًا لفظيًا للفاء في قوله: {فكذبوا رسلي}.
وقوله: {فكيف كان نكير} مفرع على قوله: {وكذب الذين من قبلهم}.
وكيف استفهام عن الحالة وهو مستعمل في التقرير والتفريع كقول الحجاج للعُدَيل ابن الفرخ فكيفَ رأيتَ الله أمْكَنَ منك، أي أمكنني منك، في قصة هروبه.
فجملتا {فكذبوا رسلي فكيف كان نكير} في قوة جملة واحدة مفرعة على جملة {وكذب الذين من قبلهم}.
والتقدير: وكذب الذين من قبلهم فكيف كان نكيري على تكذيبهم الرسل، ولكن لما كانت جملة {وكذب الذين من قبلهم} مقصودًا منها تسلية الرسول ابتداء جعلت مقصورة على ذلك اهتمامًا بذلك الغرض وانتصارًا من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ثم خُصّت عِبرة تسبب التكذيب في العقاب بجملة تخصها تهويلًا للتكذيب وهو من مقامات الإِطناب، فصادف أن كان مضمون الجملتين متحدًا اتحاد السبب لمسببين أو العلةِ لمعلولين كعلة السرقة للقطع والغرم.
وبني النظم على هذا الأسلوب الشيق تجنبًا لثقل إعادة الجملة إعادةً ساذجة ففرعت الثانية على الأولى وأظهر فيها مفعول {كذب} وبني عليه الاستفهام التقريري التفظيعي، أو فرع للتكذيب الخاص على التكذيب الذي هو سجيتهم العامة على الوجه الثاني في معنى: {وكذَّب الذين من قبلهم} كما تقدم، ونظيره قوله تعالى: {كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر} [القمر: 9].
والنكير: اسم للإِنكار وهو عدّ الشيء منكرًا، أي مكروهًا، واستعمل هنا كناية عن الغضب وتسليط العقاب على الآتي بذلك المنكر فهي كناية رمزية.
والمعنى: فكيف كان عقابي لهم على ما جاءوا به مما أنكره، أي كان عقابًا عظيمًا على وفق إنكارنا تكذيبهم.
و {نكير} بكسر الراء وهو مضاف إلى ياء المتكلم، وحذفت الياء للتخفيف مع التنبيه عليها ببقاء الكسرة على آخر الكلمة وليناسب الفاصلة وأختها.
وكتب في المصحف بدون ياء وبوقف عليه بالسكون. اهـ.